"من يوميات "أدمغة عاصفة

Saturday, May 31, 2008

مارونيٌ ينطق "بالقاف" احترامًا للغة العربية

يا ريّس"! ناداني بينما كنت مارًا عند التاسعة مساءً على الطريق المؤدية الى منزلي. رغم أنني لست "ريّسًا" وليس طموحي أن أكون "ريّسًا" في يوم ما، أوقفني صوته الحادّ ونبرته "المرتجفة". توقفت وكأنني شعرت أنني أعرف هذا الصوت منذ زمن. خاف على منطقته من الدخلاء، ولم يعلم أنني ابن المنطقة، فاستوقفته شنطة كتفي والأوراق والصحف في يدي.


وبدأ التحقيق

"شو إنت طالب بالجامعة"؟ من دون استفسار وجدت نفسي أجيبه بسجيّة:" نعم ولكنني عائدٌ من عملي، أنا صحافي". أخطأت في لفظ الكلمة فبدأ التحقيق. بدأ تحقيقه معي وبدأت أنا تحقيقي الصحافي عنه. بدا فطنًا، فاستهلّ تحقيقه معي عـ "الخفيف":" أدّي بتقبض؟ شو بتكتب؟ شو آخر تحقيق...؟". سؤال تلوَ الآخر. لم أقوَ على التحفّظ عن الإجابة عنها لسبب من الأسباب ما زلت أجهله حتى اليوم.
جاريته في الحديث حتى راح يدخل في الخصوصيات ويسأل عن "العلاقات والحريم والراتب والعائلة". استغرب لبرهةٍ من شهرتي وقال:" لم أسمع بها قطّ". وعندما أسمعته اسم احدى الشخصيّات المعروفة التي تحمل الشهرة نفسها استدرك الأمر:" آه. إذاً أنت مارون؟". فاستغربت ردّه وتساءلت عن معنى "مارون" فلست ادعى مارون على حدّ علمي وكما تقول هويّتي. حينها ابتسم وصفعني صفعة طائفية لم أذقها يومًا: "ولو مسيحي وما بتعرف شو مارون. يعني ماروني، من اتباع مار مارون". لم أخجل من نفسي ولم أشعر أنني قصّرت في مكان ما لأنني اعتدت أن أقول إنني لبناني، ثمّ مسيحي إذًا ما سُئِلت وأخيراً ماروني، ليس خجلاً بطائفتي وإنّما حفاظًا على هويّتي.

قيلولة مزيّفة

حين انتهى أو حين شعرت أنه أخذ قيلولة من أسئلته المتلاحقة طرحت عليه سؤالاً بسيطًا:" هل تجيد الكتابة؟" فردّ بسخف:" قصدك خطّي حلو؟". فأجبته بابتسامة هزء مماثلة:" لاء قصدي شاطر باللغة؟". فردّ متعجّبًا:" مش ولا بدّ ليش؟". فلصقته الجواب الذي كان بمثابة ردّ اعتبار وثأر:" لأنك تجيد فنّ التحقيق والآن حان دوري". مضى نصف ساعة وهو لم يملّ وأنا استفقت من الملل الذي كان بدأ يتملكني حين "لصقني" بسؤال مماثل. وما لاحظته منذ بداية حديث ذاك الشاب الثلاثيني أنه يلفظ حرف "القاف" كما يفعل معظم أبناء الطائفة الدرزية الكريمة. فعرفت أنه "شوفيٌّ" أو على الأقلّ من الطائفة الدرزية. لم أسأله عن منطقته كما فعل بل قلت له مباشرة "إنت من الشوف"؟ فاستنفر:" وما أدراك؟". أجبته ببساطة:" لأنك تنطق بالقاف". تلعثم وكأنه كان يقصد أن يتمتم:" مش صحيح. أصلاً ليش بدّك تعرف أنا من وين"؟ حينها أدرت ظهري وهممت بالرحيل فتابع كلامه:" أصلاً كنت بدّي قلّك. أنا من البترون. سامع فيا؟". فأجبت:" طبعًا وأيّ لبناني لا يعرف البترون". ولفظ اسمه وتابع:" وأنا ماروني".

"سطل ميّ"

حينها كأنّ أحدهم رماني "بسطل ميّ مجلّدة". استغربت قوله ولم أصدّق فاستفسرت:" ولماذا تنطق بالقاف"؟. فأجاب ببرودة أعصاب:" لأنّ القاف حرف من لغتنا الأمّ، خُلق ليُلفظ لا ليُستبدَل بالألف كقولنا "قرد" وليس "إرد". نحن نظلم القاف. ثمّ أنا أحبّ أن أموّه عن المارة". شعرت أنه لا يزال يهزأ ولكنه نجح فعلاً في خداعي و"التمويه" عنّي على حدّ قوله. وعندما شعرت أنه بدأ ينطق سارعت قائلاً:" وما أدراك أنني ماروني. أوَليس في قريتي من مسلمين ودروز ومسيحيين غير موارنة". فقال:" ولو. من منظرك يا ريّس. ما مبيّن "gentleman". حينها أغمضت عينيّ لبرهة، لم أفكر في ما أقول وأجبت بسرعة:" منظري ومنظرك ومنظر غيري هنّي اللي خربو البلد". وتركته يفكّر في الجمل التي قلتها والممزوجة بلؤم لم أعتده.
تواريت ولم أتجرّأ على النظر الى "منظر" من هو قربي وأمامي وخلفي كي لا أتذكّر ما خدش أذني من ذاك الـ "Gentleman".

Friday, May 30, 2008

"التجغيل" العصري... فارس إزعاج يبحث عن "القشطة"



لغة شبابية رائجة. إبداعٌ آخر من لبنان يحاكي ضجة الأعمال والحفريات والزمامير. مسلسل رهيب صُنِع في لبنان وأخرج على يد نخبة من شبابه أمّا السيناريو فلا يهمّ. لغة عصرية ليتها تجالس العقل بقدر ما تزعج الأذن. هي تلك الحفلات المتنقلة من شارع الى آخر، يسكن فنانوها سيارات الشباب "المجغلين" ليلاً نهارًا فيما يشارك فيها جميع المارّة وجليسي الغرف.

إنها صيغة الحياة. لبنانيون يصنعون العجائب في الخارج وآخرون يصنعونها في الداخل. حقًا إنّ اللبناني مبدع وفنان ومبتكر. فمن كان يظن يومًا أن الموسيقى قد تصبح أداة "للتجغيل"؟ لاشيء مستحيل في وطن اللامستحيلات.

سؤال محيّر

شباب لبنانيون يجولون بكلّ فخر في شوارع المدن والقرى، زجاجة "البيرة" في حضنهم والموسيقى تخرج من نوافذ سياراتهم "الفوميه". الأكيد أنّ الشعور الذي يحمل هؤلاء على حمل أنفسهم و"صرع" الناس بموسيقاهم الصاخبة هو شعور غريب على الأقلّ بالنسبة الى أصحابه. ربّما يشعرهم بالنشوة أو حتى بالرضى الذاتي. أمّا المشكوك في أمره فهو أن تُعجب "الضحية" بذاك الأسلوب الغريب "للتجغيل والتزنيخ والحركشة".
ويختلف مفهوم "التجغيل" بالموسيقى بين المدن والقرى. طبعًا وكيف لا. ففي بعض القرى باتت لغة الموسيقى المتنقلة جزءًا من التقاليد. موسيقى عربية، طربية و"يا مين يشيل". أمّا في المدن حيث التطوّر والحضارة فتبقى الظاهرة نفسها لكن مع بعض الصبغة الغربية المتفرنجة، فيختلط ال"روك" الصاخب وال"راب" بالزمامير والصيحات.

خير مثال...

ليس صعبًا أن تجد شبانًا يتجوّلون أينما كان والموسيقى تنبعث من سياراتهم الأنيقة أو المترهّلة. فعلي الذي يعرف بيروت "حكرًا ووكرًا" يجوب معظم شوارعها باحثًا عن الرزقة التي تلفتها الموسيقى "الوسوفية" أو "الدلعونية". وما أكثرهنّ. لا يخفي علي أنّ تلك الجولة شبه اليومية تشعره بأنه "جغل" عصره. لا معيار لاختيار أغانيه الشهيرة بيد أنه يحرص على تكرارها على مسامع المارّة والفتيات بشكل خاصّ الى حين أن يضجر منها فيستبدلها بشريط آخر.

ترفيه للمارة

تلك الهواية المستجدّة تشكّل في كثير من الأحيان عنصر ترفيه للمارة خصوصًا في أيام الزحمة التي لا تعرفها شوارع لبنان أبدًا. ولكن من قال إنّ جميع الناس يريدون أن يسمعوا الأغاني على الطرقات؟ ومن قال إنّ الفتيات ينسحرن بهذا الأسلوب العصري؟ الحقيقة أنّه لا يمكن الجزم بأن اللطيفات يستسخفن هذا النوع من "التجغيل" ولكن الأكيد أنّ جزءًا كبيرًا منهنّ يعتبرنه ضربًا من ضروب السخافة. سارة فتاة لبنانية تعرفها شوارع بيروت. فهي لا تملك سيّارة للتنقّل، وبين الجامعة ومكان العمل "التاكسي" هو المنقذ الوحيد. ولكن خلال فترات الإنتظار تدخل ذاكرتها مئات القصص الذي ينسجها رجال العصر وفرسان الأحلام. فارس لا يمتطي حصانه الأبيض ويلوّح بسيفه ويقضي على الأعداء ليثير إعجاب الحبيبة، بل فارس من نوع آخر ولكن بسيناريو ومشهدية مشابهين: هو فارس لكن ليس للأحلام، يمتطي سيارة حمراء أو صفراء أو متعددة الألوان بدلاً من الحصان، سلاحه الموسيقى المخيفة وليس السيف اللماع، يتخايل أنفة لا ليقضي على الأعداء إنما ليقتل المارة وسكان المنطقة ومعهم فتاة الحلم بضجةٍ لا تحتملها الأذن البشرية ولم يتوصّل العلماء الى إيجاد كاتم يقيها تلك الموهبة الرهيبة.

ثقافة واعدة

حالة واحدة تلزم "الجغل" على خفض صوت الموسيقى الصاخبة ألا وهي عندما تنضج فيه موهبة الملاطفة فيبدأ بإطلاق التعابير التي تفتح الشهية. "شو يا قشطة" وربما "يا عسل" فيستحضر كلّ أنواع الحلويات والمأكولات. على الطريقة اللبنانية البحتة، لا يترك "جغل" العصر أيّ فتاة من شرّه، سواء كان يعرفها أو لا. المهمّ أنها فتاة تمرّ على الطريق أو تطلّ من الشرفة، فتنتهي القصّة من حيث ما بدأت. وفي بعض الأحيان، يطلق الشاب العنان لحنجرته متحديًا صوت الموسيقى فيسمع الفتاة كلمتين ينشرح القلب لهما.
مهما اختلفت الأساليب، نعود لنقول إنّ لكلّ عصر حقه ولكلّ جيل طريقته بيد أنّ ذلك لا يعني أن الجميع مضطرون الى مشاركته نزوته الغرامية أو ربّما فكاهته الموسيقية.

من الفروسية والسيوف على عهد عنترة الى المناجاة من تحت الشرفات على عهد روميو وجولييت، وصولاً الى السيارات المتجوّلة والموسيقى الصاخبة على عهد جيل الألفية الثالثة: تطوّر ملحوظ في الذهنية وفي الإبداع، وإذا كان الإعجاب والحبّ في العهود السابقة عذريًا محصورًا بين الحبيبين، فاليوم الجميع مدعوون الى المشاركة سواء كانوا في منازلهم أو على الطرقات.

Thursday, May 29, 2008

إعصارُ الألوان يجتاحُ لبنان... والبنفسجيُّ مولودُه الجديد


في خندق الانتظار الطويل الذي يعيشه اللبنانيون منذ مدّة، تستعصي ظاهرة جديدة، فريدة من نوعها، لم يقوَ اللبنانيون من سياسيين ومواطنين على دحضها. إنّها رحلة الألوان التي كان قطارها سريعًا بالنّسبة إلى الللبنانييّن، فتفشّت كالوباء ولم تتركْ سوى القليلين منهم متعافين كونهم تسلحوا بالمناعة الفكريّة بعيدًا عن التبعيّة العمياء.


إنها قصة الوان خلقتها الطبيعة وابتكرها ذكاء الإنسان وفطنته، فحوّلها سياسيو لبنان، بكل بساطة ومن دون إذن أحد، إلى شعارات ذات أبعاد ومعانٍ تختلف عن جوهرها الحقيقي.
فالبرتقالي بات حكرًا على التيار الوطني الحر، والأرزة الخضراء ملكًا للقوات اللبنانيّة وحزب الكتائب، واستأثر حزب الله بالأصفر ، أما تيار المستقبل فارتضى بالأزرق، وفضّل تيّار المردة الفستقي ، في حين تبنّت حركة أمل الأخضر الفاقع... في وطن بات الأمل فيه كمن يعدّ حصى العالم.
أذكياء هم سياسيو لبنان، فقد عرفوا كيف يختارون ألوانهم بدقّة وعناية ويتناسون اللون الأساسي الجامع.
ظهر صراع الألوان هذا منذ فترة قصيرة نسبيًّا وهو يستمر في زمن يصبغ فيه اللون الأحمر القرمزيُّ طرقات المدن والقرى ويمسح عنها غبار الفساد والإرهاب والتّخريب.
ويتساءل اللبنانيون: لمَ لا يتّخذُ أيّ واحد منهم هذا اللون دون غيره شعارًا لطروحاته وتاجًا يضعه على رأسه بفخر واعتزاز؟
الواقع أنّها قصّة وطن زيّنت الشعارات جبينه بإكليل من الغار. هو لبنانهم وليس لبنان الحالمين بالعيش بكرامة، فلبنان هؤلاء هو لبنان جبران، لبنان الإنسان وليس لبنان الألوان.
سرقوا الألوان من قطعة أرض مجيدة ليضعوها على قطعة قماش "بالية"، فما ذنب هذه الألوان وما ذنب لبنان؟
وتمتلئ الشوارع والطرقات بالشعارات المبتكرة والأعلام الزاهية، وما ان يتمَّ الإعلان عن أيّ تجمّع او تظاهرة او اعتصام حتّى تطغى هذه الاعلام وتطمس الوجوه التي تحملها، فيختلط البرتقاليُّ بالأصفر والفستقي، وتغرق الأرزة في الأزرق والأخضر ويضيع الوطن في مزيج لا منفذ له.
بدأ إعصار الألوان يجتاح لبنان بشدّة منذ 14 شباط من العام 2005 وهو لم يتوقّف حتى اليوم، لا بل إنّه آخذ في الاشتداد يومًا بعد يوم. فولادة أيّ "زعيم" جديد تسبقها ولادة قطعة قماش ملونة خاصّة به يُضاف إليها بعض الشعارات والرسوم لتمييزها عن مثيلاتها من الأقمشة ذات اللّون الواحد او المشابه.

ولادة البنفسجي


في الآونة الأخيرة، منذ أسبوعين تقريبًا، شهد اللبنانيّون ولادة لون جديد ينضمُّ إلى عائلة الألوان اللبنانيّة "الشّهيرة". إنّه البنفسجيّ. لم تكن عمليّة الاختيار مفاجئة بالنسبة إلى بعض اللبنانيين، فهؤلاء كانوا يتوقّعون توسيع دائرة الخيارات والاتجاه إلى الألوان المشتقة، نظرًا إلى احتكار الألوان الأساسيّة الأخرى.
أثناء مقابلةٍ مع وزير المال والاقتصاد السابق دميانوس قطّار، أعلنت مقدّمة البرنامج عن مبادرة تضطلع بها إحدى الشّابات اللبنانيّات دعمًا لحملةٍ انتخابيّة واسعةٍ خاصّة بالوزير قطّار نحو كرسي الرئاسة. هنا كان الأمر عاديًّا، لكنّه لم يتوقّف عند هذا الحد فتابعت الإعلاميّة قائلة: "ولقد اختير لهذا الغرض اللون البنفسجي", فكانت الصدمة. وكأنّ كلّ سياسيّ بات في حاجةٍ إلى لون لينطلق في مسيرته السياسيّة او ليحافظَ على موقعه الرفيع، وهذا دليلٌ إضافيٌّ على مدى قوّة الألوان وسيطرتها ودورها في إطلاق زعماء جدد وتشكيل جماهيرهم بغضّ النّظر عمّا إذا كانوا يستأهلون ذلك أم لا.
إلاّ أنّ المفارقة التي تُسجّل هنا أنّ هذا اللون لم يخترْه قطّار لنفسه بل اختير له وألصق به وهو لم يكن يعلم بالأمر أصلاً, لذلك تفاجأ فور سماعه الخبر.

" الزعماء كثر والألوان متوافرة والحبل عالجرار"
وهكذا دواليك، من فترة إلى أخرى "ينبتُ" لونٌ جديدٌ "والحبل عالجرار", فالزعماء في لبنان كثر والألوان متوافرة وإذا استعصى الأمر يتمُّ اللجوء إلى مزج الألوان بغية التوصل إلى اللون المطلوب.

أسبابُ الاستعانة بالألوان


أمّا الاستنجاد المفرط بالألوان فله تفسيراتٌ عدة واردة في الحسبان: إمّا لجذب النّاس بألوان زاهية وشعاراتٍ مؤثّرة، واما لتوحيد الصفوف تحت مظلّة شعاراتٍ واحدة ومحددة تميّز فريقًا عن سواه، أو من أجل تلوين مسيراتٍ وسياساتٍ شفّافّة لا أصل ولا لون لها.
إنّه الأخضر والأصفر والأزرق والبرتقالي والاسود والزهريّ والبنفسجيّ... فقد بات للبنان ألف لون وألف علم.
صرخة الشّعب
تبقى الدّعوة - صريحة أحيانًا وضمنيّة أحيانًا أخرى – من قبل معظم اللبنانيين إلى أن يدع هؤلاء السياسيّون ومن يناصرهم الألوان بسلام وأن يسعوا إلى إشغال أنفسهم بتثبيت سياساتهم وخطواتهم, باعتبار أنّ الحياة المثلى لوطن مثاليٍّ تكون بلا لون كما هو الماء عنصر الحياة والاستمرارية. كما تصدحُ عاليًا أصواتُ فئة كبيرة من الشّعب اللبناني مطالبة بالابتعاد عن هذه الألوان "المبهرجة" والشّعارات المحرّضة بهدف إنهاض الوطن من كبوَته وركوده بدلاً من إغراقه في مستنقع من الألوان الزّائفة.

NB:
"حذار من اللجوء إلى الألوان ما فوق البنفسجيّة"
في شتّى الاحوال، إذا كان الشّعبُ اللبنانيُّ غافلاً عن تبعيّته العمياء لألوان "مسيّسة" فالتّاريخ يقظٌ ليخطَّ بأمانةٍ حكاية شعبٍ ظلم الألوانَ فظلمته، حكاية وطن رفض الألوان وصارعها فانتصرت عليه وكادت أن تصرعَه بطرفة عين.
ويبقى في خاطر اللبنانيين السؤالُ الاكبر: ماذا بعد البنفسجي؟ وهل نصل إلى مرحلة الألوان ما فوق البنفسجيّة المحرقة؟
أمّا الجوابُ فمتروكٌ للزمن!

"ربّ القيادة" يطاحش على وقع "اللكشات" الممنهجة


"يا زلمي بهالبلد ما بتخاف من سواقاتك بس من الإدّامك". عبارةٌ يكرّرها اللبناني في جلسات "العنجهية" المعتادة على مسامع الرفاق والجيران. "ما أنا وأنا"... بهذه الكلمات يبرّر "لكشة" عرضية لسيارته الشهيرة التي قاست منه ما قاسته ولم تفتح "فمها" يومًا.

إنه وبكلّ فخر كتاب القيادة المثالية في لبنان. كتابٌ لم تأخذ عملية تأليفه "كلاّ عبعضا" بضع ساعاتٍ. المؤلف "ربّ القيادة" وما أكثرهم في هذا البلد. البداية في السيّارات المطاحشة و"المزوربة" أمّا الخاتمة فإمّا في "الجلّ" وإمّا في المستشفى و"الحق عالإدام" طبعًا.

من قاموسهم

إنه "ربّ السواقة" وكيف لا يكون؟ "ربّها" ولكن بمفهومه الخاصّ. ولمن لا يعرف المعايير التي تخوّل السائق دخول كتاب "فطاحل" القيادة ومخالفيها إليكم هذه الوصفة المضمونة 100%، والتي في حال تمّ الإلتزام بها تكون نتيجتها أيضًا مضمونة وهي عبارة عن بضع سنوات سجن لكن ليس في لبنان طبعًا: لا تضع حزام الأمان كي ترتاح "بالتشفيط" والتدخين والتحدّث الى الخلوي والأكل وربّما تنظيف الأسنان إذا تأخرت عن العمل. للظروف أحكامها والغاية تبرّر الوسيلة لذا "طاحش" بما أوتي لك من قوّة وإن لزم الأمر "فلكشة أو لكشتان" كحدّ أقصى "ما بيشكوا من شي". زمورك متعدّد الإستعمالات: للتسلية، "للتزنيخ"، للتعبير عن الاتجاه السياسي، وللدلالة على أنّ صبرك قد نفذ من "الإدامك" وهو طبعًا سيخاف منك لأنّ للزمّور رهبته. المرآة لا استعمال لها فهي مجرّد "ديكور" زرعته شركات السيارات، وفي حال كان لها وظيفة فهي "لتظبيط شبوبيتك" ليس أكثر. أخيرًَا الشتائم المنبعثة من النوافذ لسائقٍ "كسر عليكم" أو مرّ قبل فخامتك ضرورية لتسجيل موقفكم ولتسجيل بطولاتكم في كتاب "فطاحل" القيادة.

من مال الله

حسب علمنا وعلم الجميع هناك في كلّ دولة مراكز للوهب على أنواعه: وهب أعضاء، وهب مساعدات خيرية، هبات إقتصادية وغيرها، بيد أنّ معظم عمالقة العالم لم يتوصلوا بعد الى افتتاح ما تمّ ابتكاره في لبنان: مراكز لوهب الرخص. سواء كانت هذه الآلية معتمدة ولم تعد اليوم أم أنها لا تزال حتّى الساعة فالأكيد أنها مرّت على لبنان ولم يكن مرورها مرور الكرام، بل عشّشت فيه ونامت فيه وأخذت مجدها و"كتّرت". أمّا النتيجة الجلية فكانت المزيد من عباقرة القيادة. وليس المقصود في هذا الإطار التشكيك ببراعة اللبناني في القيادة وإنمّا إلقاء الضوء على قاموس القيادة الخاصّ الذي يبتكره مع الوقت عندما يكتشف أنّ القيادة على طرقات بلده ليس بالأمر المشرّف بل هو بالأحرى أمرٌ "بيكفّر".

صاحب الحق

أمران لا يمكن لأحد أن يساوم اللبناني عليهما: السياسة والقيادة. فخيرٌ لك أن تغيّر اسمك على أن تمسّ بعقيدة اللبناني السياسية. وخيرٌ لك أن تطرق رأسك بالحائط على أن تقول للبناني "الحقّ عليك بالحادث". فهو دائمًا كفيلٌ بإيجاد التبريرات حتّى بعد مجيء الخبير. ينتقد الآخر بشتّى أنواع الشتائم حتّى لو كان هو المذنب، دائمًا الحقّ على الآخر، ذاك المجهول الذي لا يعرف فنون القيادة علمًا أنّه خرّيج المدرسة نفسها. وليت الحقّ يبقى على ذاك المجهول فقط، بل حسب التعابير اللبنانية مرّة على "الإدماني" ومرّة أخرى على "الخلفاني" ويختلط الحبل بالنابل و"الشاطر يفهم". ولكن ذاك اللبناني المقدام والمطاحش والمقبل بشهية على إطلاق التهم ورميها على هذا وذاك، ألا يحسب يومًا أنه قد يكون هو "الإدماني" أو "الخلفاني" ذات مرّة؟ فأبو داني مثلاً هو "ربّ" القيادة على حدّ قوله. لا أحد ينافسه على طرقات لبنان وهو لا يخاف من "قيادته" المتينة بل من الآخرين. أبو داني يخرّج أجيالاً في قيادة السيّارات، فيقول:" أولادي طالعين من تحت إيدي، ولاد أبوهم. يبرعون في قيادة سياراتهم ولا يخالفون قواعد السير. محنكو قيادة يطاحشون ولكن بذكاء وخبرة". وأمثال أبي داني كثر، يتباهون بقيادتهم العتيقة ويعلقون براعتهم في تجنب الحوادث و"اللكشات" وسامًا على صدرهم يساوي الشهادات بمئة مرّة.

الزمّور السحري

كثيرون يتساءلون كما نتساءل نحن الذين يوقظهم "الزمّور المعلّق مع صاحبو" عند السَحَر، ماذا يغيّر الزمور؟ وهل هو كفيل بحمل السيّارة عاليًا وسط الزحمة الخانقة لتمرّ بصاحبها فوق السحاب؟ وكأنّ "الزمور" اللبناني يصنع الأعاجيب حتّى يضع السائق يده عليه ولا يزيحها إلاّ عندما "يزيح" الناس به. هذا في زحمة السير، ولكن لا شيء يمنع من أن يطلق أحدهم العنان لزموره الجديد، ليس بهدف إزعاج الناس البتّة "أعوز بالله"، ولكن فقط لأنه أراد أن يجرّب زموره الجديد "الطالع من الشركة". وعلى وقع أنغام الزمور الشهير يستفيق الحيّ ويعلو صوت المنزعجين والزمور لا يتوقف إلاّ بعد أن يتأكد صاحبه من سلامته. ومن أراد أن يؤثّر أكثر "لتفرّ" دمعة المستمعين العالقين في الزحمة أو "الساردين" على شرفاتهم يستخدم الزمامير الملحّنة. فيرقص الشارع وطنيّةً على صخب زمّور مسيّس. وكأنّ التصفيق في الساحات لا يكفي حتّى ينتقل التعبير الى الزمامير "المعتّرة" التي ضاقت ذرعًا بصاحبها وبحّ صوتها وجفّ ريقها من التمجيد بهذا والتفخيم بذاك. وليس الساسة بعيدين عن هذا الواقع، فإذا أردت معرفة أنّ زعيمًا ما قادمٌ على إحدى الطرقات، فما عليك إلاّ انتظار زمور مواكبيه الذي يفتح فمه ولا يقفله إلاّ بعد وصول الزعيم الى المكان القصود.

كلمة حقّ تُقال

لو كانت طرقات لبنان مشرّفة وتليق بالقيادة السليمة لحكمنا على اللبناني بالمخالفات القاتلة، ولكن بما أنّ طرقات لبنان التي تعجّ بالحفر والخنادق والتحويلات ومئة "ضربة سخنة" تكاد تشبه حلبات "الرالي" الجبلية، نعود لننصف السائق ولنقول حقًا: "منيح اللي بعدو مهدّي"، ولعلّ كلمة "مخالفات ولكشات وضيق نفس" على طرقات مماثلة هي كلمات قليلة ولا تفي الواقع المرّ حقه في الوصف. بيد أنّ ذلك لا يبرّر تلك العادات التي ابتدعها اللبناني "كفشّة خلق" على ما يعانيه ليس من "الإدماني والخلفاني" بل من الحفريات المنتصبة أمامه.

إنّها حياة اللبناني. تضيق به الأحوال فيقف جامدًا أمام حلين: إمّا أن يغرق في ظلمة التبعيات وينجو وإمّا أن "يفشّ خلقه" بأخيه اللبناني. وكالعادة القوي و"المدعوم" يأكل رأس الضعيف.

عندما تتسامى اليدان على ازدراء اللسان


مصغون والإصغاء إبداع. هدوءٌ مريبٌ تشوبه إشاراتٌ نابعة من جسد يبذل كلّ طاقاته ليعوّض ضعف اللسان وتوق الأذنين الى لغة سامية تتحرّر من حدود الحروف والمساحات النطقية، تبتعد عن ازدراء الكلمات وصخبها لترتقي بحركةٍ صادقة بسيطة. أشخاصٌ قدّرت لهم الحياة أن يتآخوا مع الشفاه فدوّنتهم في كتابها صمًّا يبحثون عمّن يفهم لغتهم وعن وسائل إعلام تهتمّ بإفهامهم لغتها.

معهم تتقنّ فنّ الصمت وتتلمّس ثقافة قراءة الشفاه. تحرص على النظر في عيونهم من دون خفر. تسأل ببطءٍ فترى الجواب في بريق عيونهم واندفاع يديهم قبل أن تسمعه من فمهم المتعطش الى النطق السليم.

رخصة القيادة

حاجات الصمّ هي حاجات أيّ شخص عاديٍّ في المجتمع. وأينما قصّرت الدولة أو تقاعست عن تأمين هذه الحاجات هناك دائمًا من يعوّض ذلك. فالأب جان ماري شامي، رئيس جمعيّة "الإصغاء"، قدّر الله أن يضعه في طريق الصمّ، يشاركهم الأفراح والأتراح، يعيش حياتهم، يحلّ مشاكلهم، يهديهم الى درب الحق كأيّ مرجع دينيّ، والأهمّ أنه يتكلّم لغتهم. 23 عامًا قضاها الأب شامي مع الصمّ ولم ييأس يومًا لا بل زادته الإشارات قوّة حتّى أنّها باتت جزءًا لا يتجّزأ من كيانه.
وفي إطار حقوق المعوّقين، يقول الأب شامي إنّ " رخصة القيادة هي من أبسط الحقوق بيد أنّ بعضهم يقول إنّ الأصمّ لا يجب أن يقود في حين أنّ القانون لا يمنع ذلك. وكلّ ذلك لأنه عاجزٌ عن سماع الزمّور. ولكن هنا أتساءل: هل إنّ أولئك الذين يقودون والموسيقى الصاخبة تنبعث من سياراتهم أو أولئك الذين يتحدثون على الهاتف الخلوي أثناء القيادة قادرين على سماع الزمور. على الأقلّ من يتحدث على الخلوي عاجز عن التركيز في حين أنّ الأصمّ يوظّف كلّ تركيزه أثناء القيادة. وقد ناضلت كثيرًا وتوصلنا أخيرًا الى إقناعهم بإعطاء الأصمّ رخصة القيادة. هذا ويقول بعضهم:" الصمّ حرام أن يتزوّجوا". وهنا أسأل لمَ "الحرام"؟ ألا يملكون الحقّ بالحياة كسائر الناس؟".

وسائل الإعلام

صحيحٌ أنّ لبنان هو مهد الصحافة وأب الإعلام العربي، بيد أنّه لا يتميّز كسائر البلدان بوجود وسائل إعلام خاصّة بالصمّ أو على الأقلّ برامج خاصّة بهذه الفئة. فأضعف الإيمان أن يتابع هؤلاء نشرات أخبار بلادهم، ولعلّ وسائل الإعلام اللبنانية مقصّرة في هذا المجال، ليس لأنها عاجزة عن خوض غمار برامج مخصّصة للصمّ بل لأنّ ليس هناك لغة موحّدة للصمّ في لبنان وذلك رغم اجتماع جمعيّات الصمّ في سبيل اعتماد لغة إشارات واحدة بيد أنّ خصوصية كلّ جمعية حالت دون ذلك. ويتساءل الأب شامي:" إن كنا عاجزين عن توحيد الإشارة، فلمَ لا تضع وسائل الإعلام ترجمة مكتوبة لنشراتها الإخبارية وبرامجها أسفل الشاشة، فيتمكن الأصمّ حينها من قراءة النشرة ومتابعة الصور والتقارير خصوصًا أنّ معظم الصمّ اليوم يدخلون المدارس والجامعات ويبدعون في مجالات عدّة. فالصمّ في حاجة الى سماع نشرات أخبار يعدّها ويبثّها صمّ وليس أشخاصًا عاديين".

كورس بالإشارات

هناك، في سيّدة البشارة في زقاق البلاط، تتسامى الإشارة لتمجّد ربّ العالمين. قدّاسٌ بالإشارات على وقع الأنغام المقدّسة، تمازجها بين الفترة والأخرى ألحانٌ صامتة ترسمها أيادي الكورس الصامت. هناك يجتمع الأب شامي كلّ أحد بمجموعة من الصمّ. ويروي الأب أنه "ذات مرّة كان يعظ فيها خلال قدّاس الأحد فطلب من أحد معاونيه أنّ يحضر له كوب ماء بحجة أنّ ريقه قد جفّ علمًا أنه كان يعظ طول الوقت بالإشارات". ويبرّر الأب شامي هذا الشعور الغريب فيقول :" صدّقني الإشارة لغة بكلّ ما للكلمة من معنى. فإذا كان الجسد مرتاحًا والرأس مرهقًا تكون الإشارة غير مرتاحة لأنّ الأمر يأتي من الرأس فيحرّك اليدين والجسد، فتكون الإشارة بمثابة ترجمة صور تأتي من الرأس وتُبثّ الى الخارج بعد سحب الغامض منها لتكون نقيّة ومفهومة". وعن نظام الجمعية وبرامجها يشير الأب شامي الى أنّ "البند الأساسي في الجمعية يقوم على مبدأ مفاده "ألاّ نكون صمّا لحاجات الآخرين".

نادرة تتكلم

نادرة وإليان، شابتان ربّما ظلمهما القدر عندما أخرجهما الى الحياة صمّاوين، لكنه عاد لينصفهما مع عائلتين محبّتين، ووضع في دربهما قوّة بشرية قادرة على احتضانهما مجتمعيًا، فانضويتا معًا تحت جناح جمعية "الإصغاء" حيث تعملان اليوم في مجال "الفن الغرافيكي". نادرة لا تجد صعوبة في التواصل مع باقي أفراد عائلتها. فأختها الكبرى أبت إلاّ أن تشاركها حالتها، فتزوّجت من رجل أصمّ وأنجبت ولدين أصمّين وهي اليوم تعيش حياة طبيعية مع عائلتها الصغيرة. لا تجد نادرة نفسها مختلفة أو غريبة عن المجتمع، فهي تعيش حياة طبيعية، تخرج الى السينما، تمارس هواياتها الكثيرة مع رفاقها وتعشق مشاهدة المسلسلات التلفزيونية، وفي حال لم يكن المسلسل مترجمًا تطلب من والدتها أن تفسّر لها. تبذل نادرة كلّ ما في وسعها لتنطق بشكل سليم، تراها توظّف طاقتها الجسدية لتشاركك الحديث، تثبّت عينيها في عينيك دون أن يرفّ لها جفن، تقرأ الشفاه بتأنٍ وتجيب بكلّ ما أوتي لها من قوّة.

الحياة تعلّم

للحظةٍ لا تخال نفسك تتحدّث الى شخصٍ عاجز عن التقاط نبرة صوتك. البسمة لا تفارق وجهها، شجاعة وكيف لا تكون كذلك وهي ابنة الحياة، مندفعة، تسأل دون خجل، تحرص على صورتها الجميلة في عدسة الكاميرا. علّمتها الحياة أنّ الصداقة مع أشخاص يعانون حالتها تكون أطول وأمتن منها مع الأشخاص العاديين.
لا شيء يميّز إليان عن زميلتها نادرة سوى أنّ الخجل الأنوثي يطبع شخصيتها. البسمة لا تفارق ثغرها. الطموح يشعّ من عينيها اللتين تبرقان أملاً بالحياة. تلك الفتاة الطموحة تحبّ السفر، تتمنّى لو أنّ طائرة تحملها ذات مرّة الى خارج الأراضي اللبنانية. تعتزّ إليان بأصحابها الذين يشاطرونها الصمّ. معهم تجد نفسها، تريح لسانها لتطلق العنان للغة جسد لا حدود لها.

نظنّهم بعيدين كلّ البعد عن الحياة اللبنانية المثقلة بالهموم والمآسي التي تخترقها بخفر بعض لقطات السعادة، فنكون قد أخطأنا ثلاث مرّات في حقهم: الأولى لأننا ظنناهم غير آبهين بأحزان وأفراح يشتمون رائحتها من دون أن يتذوقوا طعمها والثانية لأننا قللنا من شأن وطنيتهم وحرصهم على معرفة كلّ ما يجري في الوطن الذي ليته يحتضن صمتهم خير احتضان، والثالثة لأننّا ظننّاهم بكمًا لا تليق الحروف بهم مع أنهم ينطقون الحرف بفنيّة وحرفيّة خاصّتين بهم.
الحقيقة المرّة أنّه عندما ندير نحن "دينتنا الطرشا" لحاجات الآخرين، يصغي هؤلاء الصمّ بقلوبهم، بعيونهم، بوجوههم، وبكلّ نبضة في عروق جسدهم. يصغون أفضل منّا والإصغاء بالروح إبداعٌ.

إن صمتوا "كسدوا" شعبيًا وإن خطبوا انزلقوا لغويًا



"العترة" على شعبٍ نقمة السماء والأرض عليه. فمنذ ظهور اللبناني على أرضه وسفن سياسييه تجري بخلاف ما يشتهي. يكدّ المواطن ليسجّل أولاده في أفخم المدارس ويفعل ما في وسعه ليكتسبوا لغتهم الأمّ، ليتفاجأ لاحقًا أنّ مسؤوليه أنفسهم غير حريصين على هذه اللغة، وإن سلمت جرّة خطابهم المقدّس مرّة، تسجّل أذن المستمع العادي بين الكلمة والأخرى خطأً قاتلاً.

إذا كان العالم الأميركي فيلو فارنسورت قد انتشل البشرية من الظلمة عندما اخترع التلفزيون، فإنه في المقابل أخطأ كثيرًا بإغفاله أصغر التفصيلات فيه وأكثرها أهمية. الحقيقة أنه لم يحسب أنّ التلفزيون سيصل يومًا الى لبنان، فنسي أن يضيف إليه آلة صغيرة تحصي أخطاء الخطباء والزعماء المهرة. ولكن حتّى لو أضافها لما كانت ستجدي نفعًا كونها لن تتحمّل ضغط الأخطاء اللغوية في الثانية الواحدة. وبما أن البشرية لم تتوصّل بعد الى هذه الآلة الفريدة، يبقى التعويل على أذن المثقّف وأصابعه وأصابع من حوله ليحصوا أخطاء من ينتظرهم "على غلطة" ليحاكمهم قانونيًا. وإذا كان من أُنزل بهم العقاب مجرمين مستحقين له، أوَليس الكفر بقواعد اللغة وبلاغتها جريمة في حقّ كلّ من ينطق بالعربية؟

معضلة عجيبة

إن صمتوا أبدعوا وإن تكلموا أفجعوا. ليس غريبًا على ساسة لبنان أن يصوموا مدّة لا ضير فيها عن الكلام . فيظنّ ذوو القلوب الطيبة من الشعب والذين هم "على قدّ حالهم" أنّ الزعماء قرروا أخيرًا التعاطف مع كلّ فئات الشعب وتذوّق المعاناة التي يعيشها البكم، ليتفاجأوا لاحقًا في سبب الصمت الذي غالبًا ما يثير بلبلة في الأوساط الشعبية ويترك المسرح خاليًا للإشاعات التي لا ترحم:" هذا اختلف مع التكتل الفلاني فاعتكف عن الحديث، وذاك ترك التيار العلتاني وغيرها...". هذا إن صمتوا "لا سمح الله"، وإن لم يفعلوا فيأتي كلامهم المشحون بالعنف والصخب مشحونًا بالأخطاء المريعة التي لا ترحم اللغة التي تنبع منها ولا الأذن البشرية التي تهلكها الهفوات الطنانة.
وتبقى المعضلة: إن صمتوا فمشكلة وإن نطقوا فمصيبة.

تضحية...

في وطن باتت فيه اللغة العربية بمثابة لغةٍ ثانوية مقارنة باللغات الأخرى التي يفرضها "التفرنج" اللبناني، لم يبقَ أمام الزعماء سوى حمل لواء الدفاع عن هذه اللغة وحمايتها من "الخروقات" الخارجية، ولكنهم في المقابل ينسون أن يحموها من أنفسهم، لأنّ الواقع يقول إنّ أذية أهل الدار أكثر وقعًا من أذيّة الغرباء.
كثيرون هم الذين يعترفون بضعفهم اللغوي وبتقصيرهم في حقّ لغتهم الأمّ، فتكون الحلول لهؤلاء بسيطة وسهلة المنال: إمّا أن يعودوا كالصغار الذين يلاحقهم طيف قواعد اللغة حتّى الصفوف الجامعية، وإمّا أن يعتزلوا الكلام باللغة العربية فيوفّروا عذابًا على أنفسهم وعلى من يعدّ لهم الخطاب وعلى أذن المستمع، وإمّا أن يصمتوا أو أن يتقنوا لغة الإشارات التي لا تسجّل عليهم هفواتهم الجمّة.

نصائح لغوية

نعترف لساستنا أنّ اللغة العربية لغة صعبة جدًا، ولكن ليس المطلوب "بصم" قواعدها بل معرفة الحدّ الأدنى منها. ولتسهيل المهمّة عليهم وعلى من لا يعرف بديهيات تلك القواعد، لابدّ من تطبيق بعضها على حياتنا اليومية.
فالحركات اللغوية كيف لا تعرفونها وأنتم "أرباب الحركات"؟
فالضمّ هو ما تمارسونه خفية عنّا، والنصب ومن أدرى منكم به، والجرّ الذي تناسبه الكسرة دعوا الشعب يتحدث عنه. أمّا السكون فهو الذي لا تعرفونه فعلاً وهو يأخذ شكل الدوامة التي أدخلتم الشعب فيها.
الفاعل دائمًا مرفوع الى أعلى مستوياته، والمفعول به وهو الشعب دائمًا منصوب، أمّا الفعل فحسب "همّتكم"، مرّة مبنٍ على ثقة مفقودة ومرّة أخرى يحمل لواء النصب ومرّة ثالثة مجزوم ولا عودة عنه. الحال "تعتير" دائمًا منصوبة، أمّا النعت فلا حول له ولا قوّة يتبع المنعوت في كلّ حالاته رغمًا عنه.
وحروف العلّة، وكيف لكم ألاّ تجيدوها وهي منكم وفيكم؟ أمّا الأمر المجزوم فلكم طبعًا.
لم، لا الناهية ولام الأمرهي حروف الجزم التي لا يجيد الشعب لفظها أو ربّما لا يجرؤ على ذلك. لن، كي، لكي هي حروف النصب وهي الوحيدة التي تعرفون وظيفتها قبل المضارع.

مبدعون من لبنان

في ما خصّ أحرف النداء التي تستهلون بها خطاباتكم، فالرجاء أن ترفعوا مستوى الخطاب بعد "أيها" يا أيها السادة، ولا تنسوا "لا النافية" للجنس التي تبررون بها أفعالكم والتي ستنفي كل "ما في جنس بشري" في لبنان في حال استمريتم على هذا المنوال. وأدوات الإستثناء ربّما لم تسمعوا بها لأنّ لا أحد مستثنًى من حساباتكم. ولا تقلقوا في شأن "المفعولات"، فسواء كان مفعولاً به أو معه أو فيه الأمر نفسه، أمّا المفعول لأجله فهذا ما يجب أن تتقنوه قليلاً لأنه غير وارد في منجدكم اللغوي.
ومع أنّ ما "كان" لن يتغيّر مع "ليس" إرفعوا مبتدأهما وانصبوا خبرهما فقط على غرار: " كان لبنان عامرًا، وليس لبنان عامرًا". ومع الأحرف المشبّهة بالفعل على غرار "ليت ولعلّ" وهي لغة الشعب في كلّ حال انصبوا المبتدأ وارفعوا الخبر. ولا تحملوا همّ أحرف العطف، فليس العطف مطلوبًا منكم. أمّا الأفعال الخمسة فليست سوى نقطة في بحر أفعالكم "المليونية" لذا لن يصعب عليكم حفظ خمسة منها. وفعل الطلب يجيده الشعب، أمّا جوابه فمجزوم من قبلكم ومعروفٌ بأنه سلبيٌّ حكمًا. واحذروا الممنوع من الصرف، وفي حال صُرّف عينوا آخر "بالوكالة". وإذا كان فعلكم مجهولاً وهذا غالبًا ما يحصل، وفي حال لم تجدوا فاعله فابحثوا عن نائب فاعل وما أكثرهم.
وأخيرًا، ليس التعمّق في أصول البلاغة مطلوبًا منكم طالما أنكم بليغون فطرةً، ولا في البديع طالما أنكم مبدعون من لبنان، ولا في العروض كي لا يقوم الفراهيدي من موته يسترحمكم السكوت كما يفعل الأحياء اليوم.

إذا كان الساسة اللبنانيون، على اعتبار أنهم المسؤولون عن الأمّة ومندوبوها، هم "وجه السحّارة" فالحريّ بالحريصين على اللغة العربية أن ينتشلوا من هم مطموسون في "كعب السحّارة"، لأنّ "التفاحة المهريّة" ولو كانت عائمة على الوجه تنقل عدوى الإهتراء الى باقي التفاحات شيئًا فشيئًا.

زادهم الإقتباس وآخر العنقود " روق عصَبري"




زعماء رصّعوا مسيرتهم بسياسيات ألماسية. توّجوا حكاية وطن بنهاياتٍ تكاد تكون دراماتيكية. خطّوا التاريخ اللبناني بتعابير مستجدة دخلت أذهان العامّة. فرضت نفسها كقاموس جديد ترافق الشعب من المهد الى اللحد وربّما تنتقل بالوراثة الى الأجيال المقبلة. إعتدنا أن نسمع الناس يقلدون حركاتهم ويتلفظون بتعابيرهم. واليوم تنقلب المعايير فيعود هؤلاء الساسة الى من ربّعهم على عرش الحكم ليقتبسوا منهم عصارة أفكارهم.

قال ابن خلدون:" الخاسر في الحرب يتمثّل بالمنتصر ويقلده ظنًا منه أنّه صانع الكمال". هي سنّة الحياة. المرؤوسون يقلدون رؤساءهم تمثّلاً بهم أو أخصامهم هزءًا بهم. ولبنان بلد "الموضات" ليس ببعيد عن هذه الظاهرة لكن مرّة أخرى يخرج عن القاعدة المعهودة. فبعدما اعتدنا على تعابير وحركات تعشش في كلّ الشوارع وتتربع على كلّ لسان إنتقلت العدوى الى الزعماء فباتوا يقتبسون بعض التعابير التي تتلاءم وحديثهم.

ليتهم يفعلون

آخر العنقود عبارة وردت على لسان العماد ميشال عون في برنامج كلام الناس المباشر. بعدما شارفت المقابلة على نهايتها، وبغية تهدئة الإعلامي مرسال غانم الذي حاول مرارًا استنطاق الجنرال، كرر عون على مسمع غانم ومسامع المشاهدين :" روق عصبري" مرتين متتاليتين. عبارة مألوفة وجدت انطلاقتها في برنامج "إربت تنحلّ" على شاشة الجديد، فصارت شخصية صبري (شربل اسكندر) على كلّ لسان. ليس غريبًا على اللبنانيين أن يقتبسوا كلماتٍ وعبارات تعجبهم فتصبح محطّ كلام لهم، بيد أنّ المفاجئ هو دخول السياسيين على خط هذا الإقتباس ليضيفوا الى تعابيرهم الشهيرة التي عُرفوا بها "تشكيلة" جديدة يستعملونها متى أرادوا التهرّب من إجابة معينة أو تمرير دعابة أثناء المقابلة أو للتعبير عن حالة أو موقف معيّن بقليل من السخرية.
من فم الجنرال الى باب السماء، ليتهم فعلاً يطبقون ما يقولون و"بيروقوا" جميعهم على صبرنا الذي بدأ ينفذ.

شتيمة مهذبة

في حديث الى "صدى البلد" يقول إيلي فغالي، مخرج برنامج "إربت تنحلّ" :" ولدت فكرة "روق عصبري" عفويًا. لقد أردنا أن يكون هناك نوع من شتيمة مرمّزة في البرنامج من دون أن نتخطى حدود اللياقة والتهذيب. فاقترح شربل اسكندر اسم صبري وركّبنا بعض العبارات التي تتواءم معها ك"طلع دينو صبري" و"روق صبري".
وأردف:" عندما أسمع أحد السياسيين يستخدم عبارة رائجة في برنامجي أشعر أنه مهتمّ بالوضع. ولا يعطيني ذلك انطباعًا غريبًا او "يا لطيف" لأن جميع الذين يشاهدون برنامجي متساوون في نظري والسياسي في النهاية هو من الشعب. لكن عندما قال الجنرال عون في مقابلته الأخيرة "روق عصبري" فرحت كثيرًا لأن الجنرال هو الذي قالها، وربّما لو صدرت على لسان سياسي آخر غير العماد عون لما كنت قد فرحت بهذا الشكل. الحقيقة أنني لم أتفاجأ بالأمر كوني كنت أعلم أن العماد عون يتابع برنامجي "
دائمًا. واقتباس الكلمات إنما هو دليل على أنّ البرنامج يعلّم البعض ولو لم يكن كذلك لما حفظوا منه بعض العبارات".
وعن حالات الإقتباس الأخرى يشددّ فغالي على أن "معظم السياسيين يرمون كلماتٍ مستخدمة في بعض البرامج. فعلى سبيل المثال ورد أخيرًا على لسان رئيس مجلس النواب نبيه برّي عبارة" شو مفكرينّي أرتين"، وأرتين شخصية في برنامجنا يؤدي دورها الممثل ميلاد رزق وتأخذ دائمًا طبع الغباء لتصل الى المراد. قد يكون الرئيس برّي يقصد شخصية أرتين الخاصّة ببرنامجنا وقد لا يكون، لكنّ الأكيد أنّ "روق عصبري" ليست لأحد سوانا وتسرّ حينها عندما تعلم أنّ أحد السياسييّن يقولها لأجلك".


حتىّ النصوص الدينية

إذا كان العماد عون قد استخدم هذه العبارة للمرّة الأولى في سبيل الدعابة، فالحقيقة تشير الى أنّ ظاهرة الإقتباس المستجدّة باتت متأصلة عند بعض السياسيين وبمثابة قوتهم اليومي الذي لا غنى عنه في كلّ خطاب وما أكثرهم.
رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع لا يقتبس من الشعب، بل يضرب "عالتقيل" فيلجأ الى النصوص الدينية. فعدى العبارات التي يتميّز بها والتكرار الذي بات على لسان كلّ محبيه ومبغضيه، إذا اطلعنا على خطابات جعجع لوجدنا بعض العبارات المقتبسة من الكتاب المقدّس وعلى رأسها:" إنّ الأرض في حزن عميق ولكن السماء في فرح عظيم"، وقد استخدم جعجع هذه العبارة في ذكرى اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط من العام 2006. هذا ولا تفارق جملة "الى أبد الآبدين" جعجع في معظم خطاباته وكلماته. أمّا بعيدًا عن النصوص الدينية فلم يوفّر جعجع الشاعر التونسي "أبو القاسم الشابي" في كلمته الخاصة في الذكرى الأخيرة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري فصرخ في جمهور ساحة الحرية:" إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر".


معجم خاصّ

من لا يقتبس من سياسييّ لبنان يؤلف معجمه الخاصّ. بعيدًا عن الهزء أو التسخيف، لا بدّ من استعراض حقيقة ما يرد على لسان بعض الزعماء والذي بات جزءًا لا يتجّزأ من شخصيتهم. فالنائب وليد جنبلاط لا ينفك يتساءل :"الى أين"؟ وهي الجملة الشهيرة التي لا ترافقه، أمّا السيد حسن نصرالله فمعروف بعبارة :"يا أشرف الناس" التي يكررها كلّ مرّة يخطب أمام جمهوره الحاشد. "إيه يعني إنّو" ثلاث كلمات خاّصة بالوزير السابق سليمان فرنجية، في حين لم يتردد رئيس الوزراء فؤاد السنيورة في حمل لواء بقاء الحكومة:"باق باق باق". "يا إخوان" (مع مطرقة) مشهد يرسم في ذاكرتنا صورة الرئيس برّي، ونقول ذكريات لأن وقتًا طويلاً مضى على حرمان الشعب من مشهد مماثل، أمّا رئيس حزب الكتائب أمين الجميّل فاقتبس من الفنانة جوليا بطرس –وربما هي اقتبست منه- عنوان أغنيتها الأخيرة التي تخصّ بها المقاومة "أحبائي"، ناهيك عن جملته النحوية المعروفة:"حبذا لو".
باختصار، قاموسٌ خاصّ يصنع صورة كلّ سياسي من ساسة لبنان، يطبع شخصيّته الخاصّة، أحيانًا قد يصبّ في مصلحته إذ يبقيه حيًا في ذاكرة محبيه، وأحيانًا أخرى قد يكون سلبيًا إذ يجعله محطّ هزء لدى مبغضيه وعلى ألسنتهم التي لا تقصّر في إشعال فتيل العنف الشارعي.

ولم لا الإقتباس طالما كانت العبارة رائجة بين الناس وطالما أنّ السياسي هو "من الناس والى الناس يعود". لكنّ الحري بهم أن "يروقوا" على صبرنا وإلاّ فلا أحد "باقٍ باق باق" في البلد، وهذا واقع "أكيد أكيد أكيد". عندها يكون الأوان قد فات "يا إخوان" ولا مجال للندم للقول:"حبذا لو" أو حتى للتساؤل:" لبنان " الى أين؟". فالجواب معلوم سلفًا وقد يكون "هلق تنيّ" أو في "أبد الآبدين".

ملوك القصور الرملية في المملكة اللبنانية



لا يضعون تيجانًا على رؤوسهم، لا يلبسون العباءات المخملية والحريرية، لا يجلسون على عروش مرصعة باللؤلؤ والأحجار الكريمة. هم ليسوا ملوكًا عادييّن، منهم من يجلس على جوانب الطرقات والشوارع متخذًا من أشعة شمس الصيف تاجًا ذهبيًا ومن نجوم الليل تاجًا ماسيًّا، ومنهم من يفضّل المكوث في مملكته الصغيرة تاركًا الأمر والتصرف "لحاشيته

في "الجمهورية اللبنانية" تستعصي الملكية ويستفحل الملوك، فتتعدّد الممالك وتتخبّط على أرض واحدة وتكون النتيجة: مملكة البطيخ ومملكة الأناناس والبطاطا والكعك والطاووق والفول...

حروب الممالك

تعيدنا هذه الظاهرة في الذاكرة إلى القصص التي يرويها الأجداد والأفلام التاريخيّة حيث يحكم الملوك ويقودون الحروب والمعارك بشراسةٍ وبربرية لغزو الأمبراطوريات الاخرى. أما "السيناريو" اللبناني فصورة طبق الأصل مع تسجيل بعض المفارقات الطفيفة.
كل ملك في مملكته اللبنانية يشنّ حربًا تنافسية على الملوك الآخرين كونهم "دخلاء"، فيحاول الغاءهم وتغييبهم عن "الحلبة". كل واحد في عمله ملك ولا أحد ينافسه، فجودة بضاعته وأسعارها المقبولة تلبسه عن حق لقب الملك.
وكأيّ مملكةٍ، يفرط الملك في استخدام لقبه ومركزه ويسقط في فخّ الجشع، فتنقلب المملكة على رأسه و"ينبت" ملوكٌ جدد يشاطرونه مجده؛ فيكثر الملوك في المملكة الواحدة وتكون النتيجة إمّا سقوط المملكة وخرابها وإمّا سقوط اللقب نفسه وتمريغ قيمته بالتراب.
والاحتمالان واردان في معمعة "الممالك اللبنانية"، فالتنافس بين "زعماء" البطيخ والاناناس والبطاطا والفول والكعك و"الفلافل" يؤدي حكمًا في منطق السوق إمّا إلى ركود حركة البيع لكثرة "المنادين" فيتجه الناس حكمًا الى السعر الأبخس وهنا تكون الخسارة محتّمة لكن أفضل من توقف البيع، وإمّا إلى سقوط لقب الملك كونه لم يعد مجديًا للمارة والمتبضّعين: "إنّهم أعقل من أن يصدقوا أنّ "ملك البطيخ" أو غيره يستأهل فعلاً هذا اللقب نظرًا لجودة ما يبيع، وكون هذا اللقب بات "مستهلكًا" من قبل معظم الباعة.
في هذه الحالة يحتار المشتري اللبناني ممن سيبتاع حاجته و تضيع معه "الطاسة" ويُطمسُ الملك الحقيقي.
هذا التنافس بين ملوك "الخضار والفواكه والمأكولات الجاهزة" يمهد الطريق لبعض الصراعات والتحايلات التي تُستَخدَم فيها أسلحة فتاكة.
في مملكة البطيخ والبطاطا والفول اصبح الجلوس على الكرسي امام عربة خشبية على جانب الطرقات استراتيجية "خالصة مدّتا" ومفعولها ضئيل جدا، لذا يبقى التعويل على سلاح التجول بالـ"بيك آب" والمناداة المنغمة عبر مكبرات الصوت وابتكار جمل ذات طابع فلسفي مؤثر مبالغ فيه: "وصل ملك البطيخ والشمام. بطيخ احمر حلو. عسل يا أناناس"، ولا ينسى أيّ واحدٍ منهم إضافة عبارة "ملك البطيخ" على لافتة كرتونية بالكاد تجد لها مكانًا بين "الله يحرسك" و"يرد عنك العين" و"العين الحسودة تبلى" و"رضى الله ورضى الوالدين" وغيرها.


وتنضمُّ الى ممالك الخضار والفواكه ممالك متمايزة عن سابقاتها بعقلانية ملوكها وبعد نظرهم فلا يعتمدون أبدًا على سياسة "الاجتياح الشوارعي" بل يتربصون في قصورهم ويعوّلون على الإعلانات واللافتات الكفيلة بجلب "الغنيمة" المطلوبة. هؤلاء هم ملوك الكعك والطاووق والفلافل والسجاد وهلمّ جرّ. وبغضّ النظر عمّا إذا كان هؤلاء ملوكًا حقيقيين في نوعية عملهم يبقى للقب الملك تأثيرٌ خاصٌّ وهالة مقدسة.

مسلسلٌ لبناني

نظريًا، قد تبدو الصورة غامضة ومبالغاً فيها، ومن اجل تبسيطها وتوضيحها أكثر على أرض الواقع إليكم هذا الفيلم "البلدي" والإخراج لبناني 100 في المئة.

من الفجر حتى الغروب، تحت أشعّة تموز المحرقة ، يجلس "أبو علي" عند دوار شاتيلا يحرس عربته والكنوز التي فيها. على رأسه قبعة من القشّ لا تشبه التاج، على جسمه قميص صيفي لا يشبه العباءة الملكية، كرسيه القديم لا يمتُ للعرش بصلةٍ، ورغم ذلك ترتفع من وسط البطيخ المستلقي في عربته "كرتونة" كتب عليها بخط اليد وبحبر أسود ملفت: "ملك البطيخ 4 كيلو بألف"، و"ملك أناناس برعشيت 500 ليرة". وتعلو فوق العربة مظلتان كبيرتان تحميان رأس أبي علي ورؤوس بطيخاته التي تنتظر من يبتاعها ليذبحها بسكين مطبخه. هو ملكٌ في عيون زبائنه وبطيخاته وأناناساته لا مثيل لها في الطعم واللون.

"بطاطا مصرية ما بتلشلش عند ملك البطاطا". عند رأس كل حيّ من أحياء بيروت، يطلّ ملك البطاطا، هو يقود وينادي و"مستشاره" يقف في الخلف يثبّت أقوال الملك ويكرّرها بصوته الطبيعي. يطلّ "ببيك آبّه" الذي يعجّ بصناديق البطاطا. ملكٌ من لبنان ومملكته "صنع في مصر"، ومع ذلك يبقى ملك البطاطا المصرية على الاقل.

على لافتة كبيرة ترتفع بضعة أمتار عن الارض، تبرق حروفٌ عشرة بألوان زاهية لتضيءَ واجهة مطعم "ملك الطاووق". هذه الحروف المعدودة كفيلة باستقطاب العشرات والمئات من عشاق المأكولات الجاهزة وتحديدًا "الطاووق".


قصورٌ من الرمل

يرتبط تفشي ظاهرة الملوك بالأوضاع اللبنانية الراهنة. أزماتٌ سياسية وصراعاتٌ داخلية تُضاف إليها الأحوال الاقتصادية المتردية، تدفع بمجملها المواطن اللبناني إلى بناء مملكته الخاصّة ليتحصّن فيها من غدر الزمان وشحّ المستقبل؛ فاللقب في رأيهم يجلب المزيد من الزبائن وبالتالي يرفع معدل البيع.
وإذا كانت هذه الاستراتيجية تطبق في الظروف العادية فهي ليست كذلك في بعض الظروف الاستثنائية لا سيما تلك المرتبطة بالصراعات والازمات على أنواعها. فعدم الاستقرار السياسي ينعكس تأرجحًا على مختلف المستويات وعلى ملوك الفواكه والخضار والمأكولات كلّ حسب حجمه، فلا تعود قصورهم الورقية قادرة على الصمود وبالتالي تسقط عند أوّل مهبّ للريح. مع ذلك يحتفظ لقب الملك بتأثيرات نفسية تغري المشتري وتدسّ في رأسه فكرة أن الملك يقتني دائمًا النوعية الأفضل.

ففي فصل الصيف البطيخ والشمام مطلوبان، وفي أيّ وقت لا تكتمل "السفرة" اللبنانية إلاّ بالبطاطا المقلية التي "لا تلشلش"، وعند ساعة الجوع الفلافل والطاووق يملآن البطون الصارخة. ولإشباع النظر والقناعة الداخلية قبل البطن يجب التأكّد من النوعية قبل شرائها، وهذه النوعية المطلوبة موجودة بلا شكّ عند ملكها وهي مكفولة ومضمونة من خلال لافتةٍِ ورقية تحمل بالخط العريض كلمة "ملك".

إذا كانت فئة الدم التي تسري في كيان سياسيّي لبنان تحمل الألقاب وعروق أجسادهم تنزف ألقابًا، فلمَ نلوم شعبًا ينسب لنفسه لقبًا وهميًّا؟