"من يوميات "أدمغة عاصفة

Tuesday, June 3, 2008

قلعة محصّنة في عالم بلا صوت





عالمٌ غامضٌ يستحيل الغوص والتعمق في غياهبه، قلعة محصنة يصعب على الأعداء والمحبين دخولها من دون استئذان. حياةٌ فريدة تختزلها الإنطوائية والعزلة. إنه عالم الأطفال المتوحدين.الفرق بينه وبين أيّ ولد آخر أنه يعلمك الصبر والإيمان، ويزرع الخجل في نفسك عندما تئنّ متألمًا أو مشتكًيا من ظلم الحياة. صمتٌ قاتلٌ قد يكون أصدق تعبيرًا من ألف كلمة وابتسامة صادقة تعوّض عن مئة قبلة أو كلمة "أحب".


مرضٌ أعيا الملايين من الأطباء والاختصاصيين، فبقي سراً يطوي الزمن عليه صفحاتٍ جديدة دون اقتناص الجواب الناجع والشافي عن أسئلة لا تزال رهن الدراسات والإبداعات الطبية المتعاقبة.


شرارة البداية

التوحّد هو اضطراب في النمو، يمنع الطفل من التعبير والتواصل الاجتماعي مع محيطه. تظهر عوارضه في السنوات الأولى من الطفولة، يتدرج من الخفيف الى الشديد. وتختلف العوارض والمميزات من ولد الى آخر، بيد أن معظم المتوحدين يعانون صعوبة في نسج العلاقات الاجتماعية وفي التعبير اللغوي وغير اللغوي، وفي اللعب واستعمال المخيلة. والمتوحدون هم أسرى التصرفات المتكررة، بحيث انهم لا يترددون عن أي تغيير في البرامج اليومية المعتادة وبكلّ الطرق.

تتضارب الآراء وتتباين الدراسات في ما خصّ أسباب مرض التوحد، ولا تزال الفيزيولوجيا المرضيّة للتوحّد غير واضحة، أمّا النتيجة الواضحة فتُظهر أن لا جواب نهائياً على مسألة مسببات المرض.


الجينة المسببة للمرض

يؤكد الدكتور باسم أبو مرعي، اختصاصي في طبّ الأطفال أنّ "الأسباب الفيزيولوجية المسببة للمرض لم تُحدد بعد، بيد أنّ كلّ الدراسات المتقدمة تشير الى أنه قد اكتشفت أخيرًا الجينة التي قد تكون المسبب الرئيسي للتوحد حيث وجدت دلائل قوية تؤكد أنها موجودة في منطقتين على الكروموسومين رقم 2 و 7، وبالتالي فإذا عُرفت هذة الجينة يبقى معرفة السبب الذي يجعل منها بالذات دون سواها مصدر المرض". ويردف: "للأسف عدد الأطفال المتوحدين في لبنان وفي العالم في ارتفاع مستمر والسبب في ذلك يعود الى أننا بتنا نتعرّف اليهم أكثر من السابق". ويلفت أبو مرعي الى أنّ "معظم الأطفال المتوحدين يتمتعون بدرجات ذكاءٍ حادّة بيد أنهم عاجزون أو بالأحرى يرفضون أن يوظفوها في الأماكن المناسبة. ناهيك عن أنّ الأطفال المصابين بالتوحد يتمتعون كسواهم بنمو عاديٍّ بيد أنّهم يتميّزون عن الباقين بجمالهم الخارجي بحيث لا تكون أشكالهم موحدة كالمصابين بمرض "تريزومي 21" أو المعروف في اللغة العامية بالمنغولي".

العوامل النفسية

هذه النظريات الطبية، تقابلها نظرياتٌ أخرى تدحض العاملين البيولوجي والوراثي لتؤكد أن العوامل النفسية والإجتماعية والبيئة التي يعيش فيها الطفل هي العامل الأساسي الذي يسهم إمّا في تأصّل المرض لديه وإمّا في التخفيف من حدته.

تشير ترايسي شمّاس، معالجة نفس- حركي الى أنّ " مشكلة الأطفال المتوحدين هي ليست مشكلة ذكاء وإنما مشكلة تواصل مع العالم الخارجي وافتقاد لأيّ نوع من ردّات الفعل. وفي علم النفس تياران متضاربان، أحدهما يؤكد أنّ هؤلاء الأطفال المتوحدين يفتقدون الى القدرة على التواصل منذ ولادتهم أي أنهم يريدون التواصل والنطق ولكنهم لا يستطيعون، والتيار الآخر يشدّد على أنهم قادرون على التواصل متى أرادوا ذلك وهذا مرتبطٌ بعامل المزاجية القوي عندهم. وحتى اليوم لم يثبت أيّ تيار هو الأصحّ. والأهمّ أنّ التبديل في المواقع ووضعيات الأشياء يزعجهم كثيرًا. فذات يوم دخل أحد الأطفال المتوحدين الى عيادتي ليتلقى علاجه النفسي الأسبوعي، وكنت يومها قد بدّلت هندسة العيادة، وما ان رأى هذا التغيير المفاجئ حتّى راح يبكي ويصرخ بشدّة. فعملت يومها الى إعادة الأشياء الى ما كانت عليه تلافيًا لأيّ عوارض أخرى من هذا النوع قد تضرّ به وتعيق تقدّمه على الصعيد النفسي الحركي".

عالمٌ خاصًّ

تتفاوت الخصائص والمميزات بين الأطفال المتوحدين تبعًا لطبيعة الحالة ولتأصل المرض أو حدته. فهم في معظمهم لا يهتمون بالأشخاص المقربين ولا يظهرون أيّ اهتمام أو قلق عند تركهم مع الغرباء. ويلاحظ أيضًا أنهم يتعلقون بشدة بأشياء قد لا تعني لهم شيئا. وتظهر اختبارات الذاكرة والذكاء والقدرات البصرية الفراغية نتائج مذهلة تؤكد أنهم يتمتعون بقدرات خارقة قد لا تتوافر لدى العباقرة كقدرة بعضهم على الرسم بالأبعاد الثلاثة أو عزف مقطوعات موسيقية معقدة أو إجراء عمليات حسابية طويلة والتوصل الى حلها بمجرد النظر إليها، وحساب التقويم السنوي كإعطاء تواريخ لأيام في الماضي أو في المستقبل البعيد، والدقة المتناهية في معرفة الوقت من دون النظر إلى الساعة.

بغض النظر عن الأعراض السلوكية، يوصف المتوحدون بأنهم طبيعيون، بل جذابون فوق العادة، ولهم قامة طبيعية ورأس بحجم عادي قد يميل الى الضخامة أحيانا، ناهيك عن تشوه طفيف للأذن الخارجية يتمثل في استدارتها من الجهة الخلفية حيث يميل الجزء العلوي منها أكثر من 15 درجة.


مجتمعٌ لا يرحم

لا تزال الحزّة في قلب أمّ كمال ليس لأنها ابنها يعاني التوحد بل لأن المجتمع عاجز عن تقبّل حالة نجلها. فتقول:" لا نقصد أماكن عامّة عندما يكون كمال برفقتنا. فإذا قررنا أن نقوم بنزهةٍ نذهب الى غابة معزولة بعيدة عن الناس. كمال لا يؤذي، وكلّ طفل متوحّد لا يؤذي أبدًا. أحيانًا يقفز على الأرض، يرفرف بيديه كالطائر، يدور حول نفسه لأنّه عاجزٌ عن التعبير بالكلام. وعندما يقوم بتلك الحركات يتجمّع الناس من حوله ويسمعوننا كلامًا مؤذيًا وينظرون إلينا نظرة احتقار أو استخفاف، ويرددون: "يا حرام. شو بلا تهذيب هالصبي. شو ما معلمينو أهلو. عيب يضهرو مع هيك ولد". ولكن ماذا لو جرّبهم الله؟ "يحطّو حالن محلنا"، هل يرتضون على أنفسهم أن يتفرّج الناس عليهم وكأنّهم عرض مسرحيّ؟ كان الحريّ بهم أن يتجاهلوا ما يحصل لأنّ كمال يشعر ويتألم ممّا يقولونه عنه، أو أن يساعدونا على تهدئته. "يا خييّي إذا ما بدّن أو ما فيون يساعدونا على القليلة ما يوقفوا بدربنا".(من الجمعية اللبنانية للتوحّد وهي الجمعية الوحيدة التي ترعى شؤون هذه الفئة من الناس).
إنه بركة في المنزل ونعمة وليس نقمة. هو ليس شبيهًا بكومة من الحجارة المتبعثرة، بل إنه كتلة من الأحاسيس المكبوتة في الداخل والتي تأبى الخروج الى العلن، فما ان يُفتح بابٌ من هذه القلعة حتّى تُفتح أبوابٌ أخرى.