"من يوميات "أدمغة عاصفة

Friday, May 30, 2008

"التجغيل" العصري... فارس إزعاج يبحث عن "القشطة"



لغة شبابية رائجة. إبداعٌ آخر من لبنان يحاكي ضجة الأعمال والحفريات والزمامير. مسلسل رهيب صُنِع في لبنان وأخرج على يد نخبة من شبابه أمّا السيناريو فلا يهمّ. لغة عصرية ليتها تجالس العقل بقدر ما تزعج الأذن. هي تلك الحفلات المتنقلة من شارع الى آخر، يسكن فنانوها سيارات الشباب "المجغلين" ليلاً نهارًا فيما يشارك فيها جميع المارّة وجليسي الغرف.

إنها صيغة الحياة. لبنانيون يصنعون العجائب في الخارج وآخرون يصنعونها في الداخل. حقًا إنّ اللبناني مبدع وفنان ومبتكر. فمن كان يظن يومًا أن الموسيقى قد تصبح أداة "للتجغيل"؟ لاشيء مستحيل في وطن اللامستحيلات.

سؤال محيّر

شباب لبنانيون يجولون بكلّ فخر في شوارع المدن والقرى، زجاجة "البيرة" في حضنهم والموسيقى تخرج من نوافذ سياراتهم "الفوميه". الأكيد أنّ الشعور الذي يحمل هؤلاء على حمل أنفسهم و"صرع" الناس بموسيقاهم الصاخبة هو شعور غريب على الأقلّ بالنسبة الى أصحابه. ربّما يشعرهم بالنشوة أو حتى بالرضى الذاتي. أمّا المشكوك في أمره فهو أن تُعجب "الضحية" بذاك الأسلوب الغريب "للتجغيل والتزنيخ والحركشة".
ويختلف مفهوم "التجغيل" بالموسيقى بين المدن والقرى. طبعًا وكيف لا. ففي بعض القرى باتت لغة الموسيقى المتنقلة جزءًا من التقاليد. موسيقى عربية، طربية و"يا مين يشيل". أمّا في المدن حيث التطوّر والحضارة فتبقى الظاهرة نفسها لكن مع بعض الصبغة الغربية المتفرنجة، فيختلط ال"روك" الصاخب وال"راب" بالزمامير والصيحات.

خير مثال...

ليس صعبًا أن تجد شبانًا يتجوّلون أينما كان والموسيقى تنبعث من سياراتهم الأنيقة أو المترهّلة. فعلي الذي يعرف بيروت "حكرًا ووكرًا" يجوب معظم شوارعها باحثًا عن الرزقة التي تلفتها الموسيقى "الوسوفية" أو "الدلعونية". وما أكثرهنّ. لا يخفي علي أنّ تلك الجولة شبه اليومية تشعره بأنه "جغل" عصره. لا معيار لاختيار أغانيه الشهيرة بيد أنه يحرص على تكرارها على مسامع المارّة والفتيات بشكل خاصّ الى حين أن يضجر منها فيستبدلها بشريط آخر.

ترفيه للمارة

تلك الهواية المستجدّة تشكّل في كثير من الأحيان عنصر ترفيه للمارة خصوصًا في أيام الزحمة التي لا تعرفها شوارع لبنان أبدًا. ولكن من قال إنّ جميع الناس يريدون أن يسمعوا الأغاني على الطرقات؟ ومن قال إنّ الفتيات ينسحرن بهذا الأسلوب العصري؟ الحقيقة أنّه لا يمكن الجزم بأن اللطيفات يستسخفن هذا النوع من "التجغيل" ولكن الأكيد أنّ جزءًا كبيرًا منهنّ يعتبرنه ضربًا من ضروب السخافة. سارة فتاة لبنانية تعرفها شوارع بيروت. فهي لا تملك سيّارة للتنقّل، وبين الجامعة ومكان العمل "التاكسي" هو المنقذ الوحيد. ولكن خلال فترات الإنتظار تدخل ذاكرتها مئات القصص الذي ينسجها رجال العصر وفرسان الأحلام. فارس لا يمتطي حصانه الأبيض ويلوّح بسيفه ويقضي على الأعداء ليثير إعجاب الحبيبة، بل فارس من نوع آخر ولكن بسيناريو ومشهدية مشابهين: هو فارس لكن ليس للأحلام، يمتطي سيارة حمراء أو صفراء أو متعددة الألوان بدلاً من الحصان، سلاحه الموسيقى المخيفة وليس السيف اللماع، يتخايل أنفة لا ليقضي على الأعداء إنما ليقتل المارة وسكان المنطقة ومعهم فتاة الحلم بضجةٍ لا تحتملها الأذن البشرية ولم يتوصّل العلماء الى إيجاد كاتم يقيها تلك الموهبة الرهيبة.

ثقافة واعدة

حالة واحدة تلزم "الجغل" على خفض صوت الموسيقى الصاخبة ألا وهي عندما تنضج فيه موهبة الملاطفة فيبدأ بإطلاق التعابير التي تفتح الشهية. "شو يا قشطة" وربما "يا عسل" فيستحضر كلّ أنواع الحلويات والمأكولات. على الطريقة اللبنانية البحتة، لا يترك "جغل" العصر أيّ فتاة من شرّه، سواء كان يعرفها أو لا. المهمّ أنها فتاة تمرّ على الطريق أو تطلّ من الشرفة، فتنتهي القصّة من حيث ما بدأت. وفي بعض الأحيان، يطلق الشاب العنان لحنجرته متحديًا صوت الموسيقى فيسمع الفتاة كلمتين ينشرح القلب لهما.
مهما اختلفت الأساليب، نعود لنقول إنّ لكلّ عصر حقه ولكلّ جيل طريقته بيد أنّ ذلك لا يعني أن الجميع مضطرون الى مشاركته نزوته الغرامية أو ربّما فكاهته الموسيقية.

من الفروسية والسيوف على عهد عنترة الى المناجاة من تحت الشرفات على عهد روميو وجولييت، وصولاً الى السيارات المتجوّلة والموسيقى الصاخبة على عهد جيل الألفية الثالثة: تطوّر ملحوظ في الذهنية وفي الإبداع، وإذا كان الإعجاب والحبّ في العهود السابقة عذريًا محصورًا بين الحبيبين، فاليوم الجميع مدعوون الى المشاركة سواء كانوا في منازلهم أو على الطرقات.

No comments: