"من يوميات "أدمغة عاصفة

Thursday, May 29, 2008

عندما تتسامى اليدان على ازدراء اللسان


مصغون والإصغاء إبداع. هدوءٌ مريبٌ تشوبه إشاراتٌ نابعة من جسد يبذل كلّ طاقاته ليعوّض ضعف اللسان وتوق الأذنين الى لغة سامية تتحرّر من حدود الحروف والمساحات النطقية، تبتعد عن ازدراء الكلمات وصخبها لترتقي بحركةٍ صادقة بسيطة. أشخاصٌ قدّرت لهم الحياة أن يتآخوا مع الشفاه فدوّنتهم في كتابها صمًّا يبحثون عمّن يفهم لغتهم وعن وسائل إعلام تهتمّ بإفهامهم لغتها.

معهم تتقنّ فنّ الصمت وتتلمّس ثقافة قراءة الشفاه. تحرص على النظر في عيونهم من دون خفر. تسأل ببطءٍ فترى الجواب في بريق عيونهم واندفاع يديهم قبل أن تسمعه من فمهم المتعطش الى النطق السليم.

رخصة القيادة

حاجات الصمّ هي حاجات أيّ شخص عاديٍّ في المجتمع. وأينما قصّرت الدولة أو تقاعست عن تأمين هذه الحاجات هناك دائمًا من يعوّض ذلك. فالأب جان ماري شامي، رئيس جمعيّة "الإصغاء"، قدّر الله أن يضعه في طريق الصمّ، يشاركهم الأفراح والأتراح، يعيش حياتهم، يحلّ مشاكلهم، يهديهم الى درب الحق كأيّ مرجع دينيّ، والأهمّ أنه يتكلّم لغتهم. 23 عامًا قضاها الأب شامي مع الصمّ ولم ييأس يومًا لا بل زادته الإشارات قوّة حتّى أنّها باتت جزءًا لا يتجّزأ من كيانه.
وفي إطار حقوق المعوّقين، يقول الأب شامي إنّ " رخصة القيادة هي من أبسط الحقوق بيد أنّ بعضهم يقول إنّ الأصمّ لا يجب أن يقود في حين أنّ القانون لا يمنع ذلك. وكلّ ذلك لأنه عاجزٌ عن سماع الزمّور. ولكن هنا أتساءل: هل إنّ أولئك الذين يقودون والموسيقى الصاخبة تنبعث من سياراتهم أو أولئك الذين يتحدثون على الهاتف الخلوي أثناء القيادة قادرين على سماع الزمور. على الأقلّ من يتحدث على الخلوي عاجز عن التركيز في حين أنّ الأصمّ يوظّف كلّ تركيزه أثناء القيادة. وقد ناضلت كثيرًا وتوصلنا أخيرًا الى إقناعهم بإعطاء الأصمّ رخصة القيادة. هذا ويقول بعضهم:" الصمّ حرام أن يتزوّجوا". وهنا أسأل لمَ "الحرام"؟ ألا يملكون الحقّ بالحياة كسائر الناس؟".

وسائل الإعلام

صحيحٌ أنّ لبنان هو مهد الصحافة وأب الإعلام العربي، بيد أنّه لا يتميّز كسائر البلدان بوجود وسائل إعلام خاصّة بالصمّ أو على الأقلّ برامج خاصّة بهذه الفئة. فأضعف الإيمان أن يتابع هؤلاء نشرات أخبار بلادهم، ولعلّ وسائل الإعلام اللبنانية مقصّرة في هذا المجال، ليس لأنها عاجزة عن خوض غمار برامج مخصّصة للصمّ بل لأنّ ليس هناك لغة موحّدة للصمّ في لبنان وذلك رغم اجتماع جمعيّات الصمّ في سبيل اعتماد لغة إشارات واحدة بيد أنّ خصوصية كلّ جمعية حالت دون ذلك. ويتساءل الأب شامي:" إن كنا عاجزين عن توحيد الإشارة، فلمَ لا تضع وسائل الإعلام ترجمة مكتوبة لنشراتها الإخبارية وبرامجها أسفل الشاشة، فيتمكن الأصمّ حينها من قراءة النشرة ومتابعة الصور والتقارير خصوصًا أنّ معظم الصمّ اليوم يدخلون المدارس والجامعات ويبدعون في مجالات عدّة. فالصمّ في حاجة الى سماع نشرات أخبار يعدّها ويبثّها صمّ وليس أشخاصًا عاديين".

كورس بالإشارات

هناك، في سيّدة البشارة في زقاق البلاط، تتسامى الإشارة لتمجّد ربّ العالمين. قدّاسٌ بالإشارات على وقع الأنغام المقدّسة، تمازجها بين الفترة والأخرى ألحانٌ صامتة ترسمها أيادي الكورس الصامت. هناك يجتمع الأب شامي كلّ أحد بمجموعة من الصمّ. ويروي الأب أنه "ذات مرّة كان يعظ فيها خلال قدّاس الأحد فطلب من أحد معاونيه أنّ يحضر له كوب ماء بحجة أنّ ريقه قد جفّ علمًا أنه كان يعظ طول الوقت بالإشارات". ويبرّر الأب شامي هذا الشعور الغريب فيقول :" صدّقني الإشارة لغة بكلّ ما للكلمة من معنى. فإذا كان الجسد مرتاحًا والرأس مرهقًا تكون الإشارة غير مرتاحة لأنّ الأمر يأتي من الرأس فيحرّك اليدين والجسد، فتكون الإشارة بمثابة ترجمة صور تأتي من الرأس وتُبثّ الى الخارج بعد سحب الغامض منها لتكون نقيّة ومفهومة". وعن نظام الجمعية وبرامجها يشير الأب شامي الى أنّ "البند الأساسي في الجمعية يقوم على مبدأ مفاده "ألاّ نكون صمّا لحاجات الآخرين".

نادرة تتكلم

نادرة وإليان، شابتان ربّما ظلمهما القدر عندما أخرجهما الى الحياة صمّاوين، لكنه عاد لينصفهما مع عائلتين محبّتين، ووضع في دربهما قوّة بشرية قادرة على احتضانهما مجتمعيًا، فانضويتا معًا تحت جناح جمعية "الإصغاء" حيث تعملان اليوم في مجال "الفن الغرافيكي". نادرة لا تجد صعوبة في التواصل مع باقي أفراد عائلتها. فأختها الكبرى أبت إلاّ أن تشاركها حالتها، فتزوّجت من رجل أصمّ وأنجبت ولدين أصمّين وهي اليوم تعيش حياة طبيعية مع عائلتها الصغيرة. لا تجد نادرة نفسها مختلفة أو غريبة عن المجتمع، فهي تعيش حياة طبيعية، تخرج الى السينما، تمارس هواياتها الكثيرة مع رفاقها وتعشق مشاهدة المسلسلات التلفزيونية، وفي حال لم يكن المسلسل مترجمًا تطلب من والدتها أن تفسّر لها. تبذل نادرة كلّ ما في وسعها لتنطق بشكل سليم، تراها توظّف طاقتها الجسدية لتشاركك الحديث، تثبّت عينيها في عينيك دون أن يرفّ لها جفن، تقرأ الشفاه بتأنٍ وتجيب بكلّ ما أوتي لها من قوّة.

الحياة تعلّم

للحظةٍ لا تخال نفسك تتحدّث الى شخصٍ عاجز عن التقاط نبرة صوتك. البسمة لا تفارق وجهها، شجاعة وكيف لا تكون كذلك وهي ابنة الحياة، مندفعة، تسأل دون خجل، تحرص على صورتها الجميلة في عدسة الكاميرا. علّمتها الحياة أنّ الصداقة مع أشخاص يعانون حالتها تكون أطول وأمتن منها مع الأشخاص العاديين.
لا شيء يميّز إليان عن زميلتها نادرة سوى أنّ الخجل الأنوثي يطبع شخصيتها. البسمة لا تفارق ثغرها. الطموح يشعّ من عينيها اللتين تبرقان أملاً بالحياة. تلك الفتاة الطموحة تحبّ السفر، تتمنّى لو أنّ طائرة تحملها ذات مرّة الى خارج الأراضي اللبنانية. تعتزّ إليان بأصحابها الذين يشاطرونها الصمّ. معهم تجد نفسها، تريح لسانها لتطلق العنان للغة جسد لا حدود لها.

نظنّهم بعيدين كلّ البعد عن الحياة اللبنانية المثقلة بالهموم والمآسي التي تخترقها بخفر بعض لقطات السعادة، فنكون قد أخطأنا ثلاث مرّات في حقهم: الأولى لأننا ظنناهم غير آبهين بأحزان وأفراح يشتمون رائحتها من دون أن يتذوقوا طعمها والثانية لأننا قللنا من شأن وطنيتهم وحرصهم على معرفة كلّ ما يجري في الوطن الذي ليته يحتضن صمتهم خير احتضان، والثالثة لأننّا ظننّاهم بكمًا لا تليق الحروف بهم مع أنهم ينطقون الحرف بفنيّة وحرفيّة خاصّتين بهم.
الحقيقة المرّة أنّه عندما ندير نحن "دينتنا الطرشا" لحاجات الآخرين، يصغي هؤلاء الصمّ بقلوبهم، بعيونهم، بوجوههم، وبكلّ نبضة في عروق جسدهم. يصغون أفضل منّا والإصغاء بالروح إبداعٌ.

1 comment:

It's just ME! said...

salut Elie,
j'ai trop aime ton article, il est bien affectant et c'est vrai que les muets savent bien parler mieux que nous.