"من يوميات "أدمغة عاصفة

Thursday, May 29, 2008

ملوك القصور الرملية في المملكة اللبنانية



لا يضعون تيجانًا على رؤوسهم، لا يلبسون العباءات المخملية والحريرية، لا يجلسون على عروش مرصعة باللؤلؤ والأحجار الكريمة. هم ليسوا ملوكًا عادييّن، منهم من يجلس على جوانب الطرقات والشوارع متخذًا من أشعة شمس الصيف تاجًا ذهبيًا ومن نجوم الليل تاجًا ماسيًّا، ومنهم من يفضّل المكوث في مملكته الصغيرة تاركًا الأمر والتصرف "لحاشيته

في "الجمهورية اللبنانية" تستعصي الملكية ويستفحل الملوك، فتتعدّد الممالك وتتخبّط على أرض واحدة وتكون النتيجة: مملكة البطيخ ومملكة الأناناس والبطاطا والكعك والطاووق والفول...

حروب الممالك

تعيدنا هذه الظاهرة في الذاكرة إلى القصص التي يرويها الأجداد والأفلام التاريخيّة حيث يحكم الملوك ويقودون الحروب والمعارك بشراسةٍ وبربرية لغزو الأمبراطوريات الاخرى. أما "السيناريو" اللبناني فصورة طبق الأصل مع تسجيل بعض المفارقات الطفيفة.
كل ملك في مملكته اللبنانية يشنّ حربًا تنافسية على الملوك الآخرين كونهم "دخلاء"، فيحاول الغاءهم وتغييبهم عن "الحلبة". كل واحد في عمله ملك ولا أحد ينافسه، فجودة بضاعته وأسعارها المقبولة تلبسه عن حق لقب الملك.
وكأيّ مملكةٍ، يفرط الملك في استخدام لقبه ومركزه ويسقط في فخّ الجشع، فتنقلب المملكة على رأسه و"ينبت" ملوكٌ جدد يشاطرونه مجده؛ فيكثر الملوك في المملكة الواحدة وتكون النتيجة إمّا سقوط المملكة وخرابها وإمّا سقوط اللقب نفسه وتمريغ قيمته بالتراب.
والاحتمالان واردان في معمعة "الممالك اللبنانية"، فالتنافس بين "زعماء" البطيخ والاناناس والبطاطا والفول والكعك و"الفلافل" يؤدي حكمًا في منطق السوق إمّا إلى ركود حركة البيع لكثرة "المنادين" فيتجه الناس حكمًا الى السعر الأبخس وهنا تكون الخسارة محتّمة لكن أفضل من توقف البيع، وإمّا إلى سقوط لقب الملك كونه لم يعد مجديًا للمارة والمتبضّعين: "إنّهم أعقل من أن يصدقوا أنّ "ملك البطيخ" أو غيره يستأهل فعلاً هذا اللقب نظرًا لجودة ما يبيع، وكون هذا اللقب بات "مستهلكًا" من قبل معظم الباعة.
في هذه الحالة يحتار المشتري اللبناني ممن سيبتاع حاجته و تضيع معه "الطاسة" ويُطمسُ الملك الحقيقي.
هذا التنافس بين ملوك "الخضار والفواكه والمأكولات الجاهزة" يمهد الطريق لبعض الصراعات والتحايلات التي تُستَخدَم فيها أسلحة فتاكة.
في مملكة البطيخ والبطاطا والفول اصبح الجلوس على الكرسي امام عربة خشبية على جانب الطرقات استراتيجية "خالصة مدّتا" ومفعولها ضئيل جدا، لذا يبقى التعويل على سلاح التجول بالـ"بيك آب" والمناداة المنغمة عبر مكبرات الصوت وابتكار جمل ذات طابع فلسفي مؤثر مبالغ فيه: "وصل ملك البطيخ والشمام. بطيخ احمر حلو. عسل يا أناناس"، ولا ينسى أيّ واحدٍ منهم إضافة عبارة "ملك البطيخ" على لافتة كرتونية بالكاد تجد لها مكانًا بين "الله يحرسك" و"يرد عنك العين" و"العين الحسودة تبلى" و"رضى الله ورضى الوالدين" وغيرها.


وتنضمُّ الى ممالك الخضار والفواكه ممالك متمايزة عن سابقاتها بعقلانية ملوكها وبعد نظرهم فلا يعتمدون أبدًا على سياسة "الاجتياح الشوارعي" بل يتربصون في قصورهم ويعوّلون على الإعلانات واللافتات الكفيلة بجلب "الغنيمة" المطلوبة. هؤلاء هم ملوك الكعك والطاووق والفلافل والسجاد وهلمّ جرّ. وبغضّ النظر عمّا إذا كان هؤلاء ملوكًا حقيقيين في نوعية عملهم يبقى للقب الملك تأثيرٌ خاصٌّ وهالة مقدسة.

مسلسلٌ لبناني

نظريًا، قد تبدو الصورة غامضة ومبالغاً فيها، ومن اجل تبسيطها وتوضيحها أكثر على أرض الواقع إليكم هذا الفيلم "البلدي" والإخراج لبناني 100 في المئة.

من الفجر حتى الغروب، تحت أشعّة تموز المحرقة ، يجلس "أبو علي" عند دوار شاتيلا يحرس عربته والكنوز التي فيها. على رأسه قبعة من القشّ لا تشبه التاج، على جسمه قميص صيفي لا يشبه العباءة الملكية، كرسيه القديم لا يمتُ للعرش بصلةٍ، ورغم ذلك ترتفع من وسط البطيخ المستلقي في عربته "كرتونة" كتب عليها بخط اليد وبحبر أسود ملفت: "ملك البطيخ 4 كيلو بألف"، و"ملك أناناس برعشيت 500 ليرة". وتعلو فوق العربة مظلتان كبيرتان تحميان رأس أبي علي ورؤوس بطيخاته التي تنتظر من يبتاعها ليذبحها بسكين مطبخه. هو ملكٌ في عيون زبائنه وبطيخاته وأناناساته لا مثيل لها في الطعم واللون.

"بطاطا مصرية ما بتلشلش عند ملك البطاطا". عند رأس كل حيّ من أحياء بيروت، يطلّ ملك البطاطا، هو يقود وينادي و"مستشاره" يقف في الخلف يثبّت أقوال الملك ويكرّرها بصوته الطبيعي. يطلّ "ببيك آبّه" الذي يعجّ بصناديق البطاطا. ملكٌ من لبنان ومملكته "صنع في مصر"، ومع ذلك يبقى ملك البطاطا المصرية على الاقل.

على لافتة كبيرة ترتفع بضعة أمتار عن الارض، تبرق حروفٌ عشرة بألوان زاهية لتضيءَ واجهة مطعم "ملك الطاووق". هذه الحروف المعدودة كفيلة باستقطاب العشرات والمئات من عشاق المأكولات الجاهزة وتحديدًا "الطاووق".


قصورٌ من الرمل

يرتبط تفشي ظاهرة الملوك بالأوضاع اللبنانية الراهنة. أزماتٌ سياسية وصراعاتٌ داخلية تُضاف إليها الأحوال الاقتصادية المتردية، تدفع بمجملها المواطن اللبناني إلى بناء مملكته الخاصّة ليتحصّن فيها من غدر الزمان وشحّ المستقبل؛ فاللقب في رأيهم يجلب المزيد من الزبائن وبالتالي يرفع معدل البيع.
وإذا كانت هذه الاستراتيجية تطبق في الظروف العادية فهي ليست كذلك في بعض الظروف الاستثنائية لا سيما تلك المرتبطة بالصراعات والازمات على أنواعها. فعدم الاستقرار السياسي ينعكس تأرجحًا على مختلف المستويات وعلى ملوك الفواكه والخضار والمأكولات كلّ حسب حجمه، فلا تعود قصورهم الورقية قادرة على الصمود وبالتالي تسقط عند أوّل مهبّ للريح. مع ذلك يحتفظ لقب الملك بتأثيرات نفسية تغري المشتري وتدسّ في رأسه فكرة أن الملك يقتني دائمًا النوعية الأفضل.

ففي فصل الصيف البطيخ والشمام مطلوبان، وفي أيّ وقت لا تكتمل "السفرة" اللبنانية إلاّ بالبطاطا المقلية التي "لا تلشلش"، وعند ساعة الجوع الفلافل والطاووق يملآن البطون الصارخة. ولإشباع النظر والقناعة الداخلية قبل البطن يجب التأكّد من النوعية قبل شرائها، وهذه النوعية المطلوبة موجودة بلا شكّ عند ملكها وهي مكفولة ومضمونة من خلال لافتةٍِ ورقية تحمل بالخط العريض كلمة "ملك".

إذا كانت فئة الدم التي تسري في كيان سياسيّي لبنان تحمل الألقاب وعروق أجسادهم تنزف ألقابًا، فلمَ نلوم شعبًا ينسب لنفسه لقبًا وهميًّا؟

No comments: